أبحاث إسلامية
السببية (4)
بعد بيان معنى السببية لغة وواقعاً وبيان علاقتها بالقضاء والقدر وبالتوكل والعلم والكتابة والقدرية الغيبية بقي سؤال واحد وهو ما هو الحكم الشرعي في السببية؟
والجواب هو أن السببية فرض فرضه الله مثل باقي الفروض كالجهاد والصلاة والزكاة وغيرها. والدليل على ذلك قوله عليه السلام: «اعقلها وتوكل» ووجه الاستدلال من الحديث هو أن صيغة الأمر في قوله اعقلها تفيد الطلب الجازم لأن حكم التوكل فرض وأدلته مستفيضة في ذلك منها قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ وقوله: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ وقوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وغيرها من الأدلة الكثيرة؛ فهذه الآيات أمر صريح بالتوكل على الله، واقترنت بقرينة تدل على الجزم، وهي مدحه تعالى للمتوكلين في كونه يحبهم. فبالإضافة إلى أن حكم التوكل فرض في الحديث «اعقلها وتوكل» كذلك فإن واو العطف والمعطوف عليه في الحكم؛ وعليه فإن الأمر في اعقلها طلب جازم أي أن السببية فرض فرضه الله تعالى. والدليل الآخر على فرضية السببية هو عمل الرسول في إنجازه لأعماله وسعيه من أجل تحقيقه لأهدافه ومقاصده؛ فلم يطلب النصر في معركة من المعارك بدون إعداد السلاح ولم يطلب تغيير المجتمع بدون التفاعل معه بالصراع الفكري الحاد ولم يطلب الحكم بدون أهل السلطة أي أهل النصرة ولم يفتح مكة بدون إعداد الجيش والاستعداد للقتال، ولم ينشر الإسلام بدون الجهاد. فمن تتبع حياة الرسول اليومية نجد أنه لم ينجز أعماله بدون ربط الأسباب بمسبباتها بغض النظر عن كون هذه الأعمال تدخل في باب الفرض أو المندوب أو المباح، كما أن الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين وتابعي التابعين من بعدهم لم ينجزوا أعمالهم بغير طريق السببية أي عن غير طريق ربط الأسباب بمسبباتها والشارع لم يبين طريقاً آخر غير ذلك لإنجاز الأعمال في الحياة الدنيا ولذلك فإن ما قام به المسلمون في مصر في العصر الهابط من قراءة صحيح البخاري في الوقت الذي دخلت به خيول نابليون الجامع الأزهر مخالفٌ للسنة وإجماع الصحابة وفيه إثم كبيرة وهو تواكل وعدم اخذ بالأسباب. والدليل الثالث على وجوب السببية هو من باب وجوب طاعة الشارع، إذ أن طاعته فرضٌ وهي تتمثل في السعي والتحري لتحقيق ما طلب، إذ أن طاعة الشارع في تحقيق الفرض فرض وطاعتهُ في تحقيق المندوب فرض وطاعته في تحقيق المباح فرض. فالشارع حين طلب القيام بالعمل إنما طلب تحقيق هذا العمل، والامتثال لطلبه عن طريق السعي لتحقيق ما طلب واجب الطاعة. أما ما يترتب على تحقيق العمل من ثواب أو عدمه فهو يعود للشارع يوم القيامة ولا شأن لقاعدة السببية في ذلك. فالشارع في طلبه القيام بالعمل يكون قد طلب السعي لتحقيق هذا العمل بالتحري عن ما يوصل إلى هذا العمل. فالامتثال لطلب الشارع من أجل القيام بالعمل يظهر من التحري فيما يوصل إلى هذا العمل. وعدم التحري لما يوصل إلى القيام بالعمل هو عدم امتثال لطلب الشارع في القيام بالعمل، بل هي مخالفة لطلب الشارع. فالتحري عن ما يوصل إلى العمل واجبٌ من باب وجوب طاعة أوامر الشارع. فطلب العمل طلب للتحري عن ما يوصل إلى هذا العمل أي الأخذ بالأسباب وتحقيق قاعدة السببية. فمن الواجب أن نتحرى عن الأسباب المؤدية إلى قيام العمل سواءً ترتب على إنجازه ثواب في حالة الفرض والمندوب أو لم يترتب ثواب في حالة المباح، فتحقيق السببية فرض بغض النظر عن حكم العمل، إذ أن حكم السببية شيء وحكم العمل من حيث الثواب والعقاب شيءٌ آخر؛ فحكم السببية آتٍ من وجوب حكم الطاعة والعمل آتٍ من دليله وهو أحد الأحكام الثلاثة أي الفرض والمندوب والمباح. والفرق بين الفرض من جهة وبين المباح والمندوب من جهة أخرى هو أن إنجاز الفرض هو المطلوب، أي إتمامه، وعدم إتمامه يترتب عليه إثم في حالة القدرة أما المباح أو المندوب فإن عدم إتمامه لا يترتب عليه إثم مع القدرة. وهكذا فإن طلب القيام بالعمل من الشارع هو طلب تحقيق العمل وإلا لا معنى لطلب الشارع، وطلب تحقيق العمل هو طلب تحقيق السببية. فإذا أراد المسلم تحقيق فرض فرضه الله تعالى عليه يجب عليه أن يسعى إلى معرفة جميع الأسباب ويجب عليه أن يربطها جميعها ربطاً صحيحاً بمسبباتها؛ فإذا قام بخلاف ذلك لا يكون قد حقق السببية أي يكون قد وقع في التواكلية ويكون آثماً في تقصيره. وإذا أراد المسلم القيام بالمندوب أو المباح فعليه أن يسعى لتحقيق المندوب أو المباح عن طريق السببية أي يربط الأسباب بمسبباتها وإلا يكون آثماً.
ولا يقال أن القاعدة الشرعية هي «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» ومنها يكن القول «ما لا يتم المندوب إلا به فهو مندوب» و«ما لا يتم المباح إلا به فهو مباح» لا، لا يقال ذلك لأن المسألة ليست في البحث عن حكم الفعل الذي لا يتم إلا به الفعل المشرع، بل المسألة هي في البحث عن حكم الوسائل والأساليب والطريقة التي يتم بها أداء الفعل بحيث تؤدي هذه إلى قيام الفعل وحصول النتائج؛ فالنصر والشفاء من المرض والنجاح في امتحان مثلاً هي عبارة عن نتائج وليست أعمالاً حتى يمكن القول بتطبيق القواعد عليها: فالبحث في حكم أساليب ووسائل وطريقة الحصول على النصر أو الشفاء من المرض أو النجاح في الامتحان؛ أي في حكم ربط الأسباب بمسبباتها. هذا مع العلم بأن القواعد الخاصة بالمندوب والمباح غير صحيحة فمثلاً الصدقة مندوب ولا تتم إلا بالمال فلا نقول أن حكم المال مندوب لأن المال قد يكون مسروقاً أو مال ربا. وكذلك الصانعة أو الزراعة فإنها مباح ولا تتم إلا بالمصنع وبالمادة المزروعة فلا نقول أن المصنع مباحة والمادة المزروعة مباحة لأن الزراعة مباحة، لا، لا نقول ذلك لأن المصنع يأخذ حكم المادة المصنوعة، والمادة المزروعة قد تكون حشيشاً فتكون حراماً.
ويمكننا القول بأن إنجاز الأعمال المادية كلها هو بمقدور الإنسان بشرط أن يكون سلوكه وسعيه لإنجازها جرياً مع قوانين الطبيعة وسنن الكون. فإذا سار مع هذه القوانين والسنن فهو محقق العمل لا محالة، ولكن إذا سار باتجاه يعاكس هذه القوانين والسنن فلن يتحقق له ذلك. لقد مر وقت كان به الصعود إلى سطح القمر شيءٌ يبدو محالاً ولكن عندما تم ربط جميع الأسباب بمسبباتها الربط الصحيح رأينا هذا الهدف يتحقق بأم أعيننا، وبت الصعود إلى باقي الكواكب والتجول فيما بينها أمر ممكن التحقيق مع مرور الزمن. ولذلك كان على الإنسان المبدئي العاقل المفكر أن لا ييأس من تحقيق وإنجاز أي عمل مهما بدا له صعباً، ولا يجوز للمسلم أن يستسلم للواقع واليأس والخمول، وما هذا اليأس والاستسلام إن حصل إلا ضعفٌ في الإيمان ونتيجةٌ لعدم القدرة على معرفة الأسباب وربطها الصحيح بمسبباتها. ويجب أن يكون فشل المؤمن حافزاً له على استئناف المحاولة لا مثبطاً له، إذ يكون قد عرف الأسباب التي غفل عنها وسببت الفشل، فلا بد وأن يستأنف المحاولة بعد الأخرى إلى أن يصل إلى النجاح. وما قيل من أن «على المرء أن يسعى وليس عليه إدراك النجاح» إن هو إلا قول خاطئ والصحيح هو«على المرء أن يسعه لإدراك النجاح» من هذا كله نرى أهمية الحاجة إلى إرادة الحديدية أي إرادة المسلم المؤمن التي لا تلين ولا يتطرق إليها الملل أو الكلل أبداً مهما كانت العقبات والصعوبات. فكل الأعمال المادية يمكن تحقيقها طالما أخذ بالأسباب وسرنا مع قوانين وسنن الحياة؛ ومن هنا فإن السبب في فشلنا لإنجاز أي علم هو في عدم معرفة جميع الأسباب ولعدم ربطها الربط الصحيح بمسبباتها. وحين نضع استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الإسلامية أمام أعيننا فهو هدف ممكن التحقيق إذا أخذنا بالأسباب وهو هدف في واقعه مع سنن الحياة لا عكسها وقد سبقنا إلى ذلك أبو القاسم عليه السلام فأقام الدولة بإرادته الحديدية ورأيه المتواصل وعزيمته التي لا تلين وذلك بعد أخذه بالأسباب. فتحديث لقريش في عقر دارها وصراعه معها، وبحثه وتحريه أن أهلِّ النصرة، وبيعة العقبة الأولى والثانية، وإرساله لمصْعَب إلى المدينة، وهجرته إليها، كل ذلك أخذٌ بالأسباب. فحين نقوم ونتلبس بالعمل لإقامة الدولة الإسلامية بعد التوكل على الله لا يجوز أن يتطرق إلى نفوسنا أي شك مهما كان ضئيلاً في إمكانية تحقيق الهدف، بل يجب أن نظل مهللين مستبشرين بنصر الله إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ.
صدق الله العظيم.