أبحاث إسلامية
السببية
تتمّة البحث المنشور في العدد السابق
صحيح أن كل إنسان يسعى باستمرار بقصد أو من غير قصد إلى ربط الأسباب بمسبباتها من أجل تحقيق أهدافه في سلوكه اليومي، بل اصبح هذا الربط سجية من سجاياه، وقانوناً من قوانين الحياة يمارسُهُ يومياً، لأنه يعلمُ علم اليقين أنه بدون هذا الربط لا يمكنُ بل يستحيلُ عليه تحقيق أي هدف. فالذي يريد بناءَ بيتٍ صغير لا بد وأن يوفر الإمكانات اللازمة لإنجازه من المال واليد الفنية اللازمة، والذي يريد طباعة كتاب من الكتب لا بد وأن يوفر جميع إمكانات الطباعة مادية وبشرية وفنية وغيرها... وهكذا؛ حتى إننا نلاحظ الطفل الصغير حين يريد الحصول على حاجة ما يلجأ فطرياً إلى ربط الأسباب بمسبباتها فيتوسلُ بأخذ النقود مثلاً لشراء حاجته من الدكان. صحيح أن هذه الظاهرة يمارسها الإنسان مراراً في حياته اليومية صغيراً كان أو كبيراً وصحيحٌ أن بمقدوره إنجازَ أي عمل من الأعمال ضمن شروط معينة إلا أنه قد يفشل في تحقيق هدف محدد وقد يؤدي هذا الفشل إلى القنوط بحيث يُقعده عن العمل. فحتى لا يضيع الإنسان في تعقيدات الحياة عند سعيه لتحقيق الأهداف الصعبة المعقدة وحتى يكون في سيره أقرب للنجاح منه إلى الفشل وحتى يضمن النجاح بعد الفشل ولا ييأسُ ولا تنهارُ قواه عن العمل أو عن استئناف العمل لا بد له من معرفة طريق النجاح أي السببية قاعدة إنجاز الأعمال وتحقيق الأهداف وأن يظل باستمرار ساعياً لتحقيقها بجميع أعماله. والإنسانُ مع يقينه بأن المسبَّباتِ لا تحققُ إلا بعد الأخذ بأسبابها إلا أنه ومع ذلك نراه يتهاونُ بالربط أحياناً في تقييده والتزامه بقاعدة السببية، فمثلاً لا يتقصى جميع الأسباب أو يتهاونُ بالربط بينها وبين مسبباتها هذا مع أنه قد يكون حددَ الهدف ومبلور القصد، ولو تقصينا الأسباب الكامنة وراء خروج الإنسان عن قاعدة السببية لوجدنا أنها كثيرة ومنها ما هو عام يشمل جميع الناس ومنها ما هو خاص بالمسلمين فقط؛ أما الأسباب العامة فمنها ما يصادفه الإنسان من تحقيق بعض أهدافه دون أن يسعى لها مثل حصوله على ثروةٍ لم يسع لها بسبب الإرث مثلاً، ومثل حصوله على النصر من جراء ضعف ألم بالأعداء؛ ومنها ما يصادف الإنسان من ظروف وأحوال بفعل دائرة القضاء تمنعُهُ من تحقيق هدف طالما سعى إليه كأن يلمَّ بطالب العلم مرضٌ ليلة الامتحان أو كحصول كساد مفاجئ في السوق بسبب الظروف الاقتصادية الدولية. فمثل هذه الحالات تترك أثراً سلبياً في حياة الإنسان على قيامه بتحقيق قاعدة السببية، بل قد تؤدي إلى الاتكالية أو التواكلية مما يدعو الإنسان ـ وهو بطبعه لا يحب العمل بل يألف الراحة وعدم بذل المجهود ـ يدعوه للتهاون في تحقيق السببية فيضعف الحافز لديه ويقل إنتاجه ومجهوده. أما ما هو خاص بالمسلمين فإن ما حصل في العصور الهابطة من خطأ الفهم لمعنى التوكل واختلاطة بمفهوم السببية من جراء سوء فهم حديث الرسول عليه السلام: «اعقلها وتوكل». وكذلك الخطأ في فهم معنى القدر والكتابة في اللوح المحفوظ وعلم الله واختلاطه بمفهوم السببية ومن جراء سوء فهم مسألة القضاء والقدر وما نتج عنها من تفشي القدرية الغيبية، كلُّ ذلك أدى إلى التهاون بالسببية والأخذ بالتواكلية.
أما عن تأثير دائرة القضاء على تحقيق الأهداف سلباً أو إيجاباً، فإن الإسلام فد فصل بين العقيدة والحكم الشرعي، فطالما أن تحقيق الهدف يتطلب أعمالاً فهو يتعلق بالحكم الشرعي ولا شأن للعقيدة به، أي أن الشارع طلب من المكلف الالتزام بالحكم الشرعي حين القيام بالعمل؛ فالعقيدة لا دخل لها بالعمل ولا يجوز ملاحظتا أثناء القيام بالعمل؛ وأي خلط بين العقيدة والحكم والشرعي عند القيام بالعمل يترك أثراً سلبياً على أداء الفعل، فإذا كانت السببية فرضاً فيجب تحقيقها بغض النظر عن تأثير دائرة القضاء. والمسلم حين يؤمن بأن القضاء من الله فإن تأثيره على إنجاز الأعمال يكون تأثيراً إيجابياً في كل الأحوال أي يدفعه إلى العمل لا إلى التواكل والكسل كما ويزيد من قواه فلا يثبطها حين يواجه الفشل. والحقيقة أن المسلم آمن أكثر من غيره من ذوي العقائد الأخرى من سلبيات دائرة القضاء. فالمؤمن إن أصابه خير اطمأن إليه وشكر وإن أصابه شر حمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
أما حديث التوكل: «اعقلها وتوكل» فهو في موضوع الأخذ بالأسباب والمسببات، فهو تعليم لأعرابي حين فهم أن التوكل يعني ترك الأخذ بالأسباب والمسببات، فعلمه الرسول عليه السلام أن التوكل لا يعني ترك الأسباب والمسببات، فهو لم يأت ناسخاً لأدلة الأخذ بالأسباب والمسببات مع التوكل، فإن الحديث هو: «أن رجلاً جاء النبي وأراد أن يترك ناقته فقال أرسل ناقتي وأتوكلُ، فقال له النبي اعقلها وتوكل» فهو تعليم للأعرابي أن يعقل ناقته أي أن يأخذ بالأسباب والمسببات، وتفهيمه له أن التوكل لا ينفي الأخذ بالأسباب والمسببات، وأمْرٌ له بالأخذ بالأسباب والمسببات وبالتوكل، ولهذا لم يكن قيداً لأدلة التوكل ولا بوجه من الوجوه، وبذلك يكون التوكل على الله فرضاً بغض النظر عن الأسباب والمسببات، وهي ليست قيداً له ولا بياناً لحكمه، لأن أدلته جاءت مطلقة غير مقيدة، ولم تقيد ولا بنص من النصوص، ولأن أدلته ليست مجملة حتى تحتاج إلى بيان، ومسألة الأخذ بالأسباب والمسببات مسألة أخرى غير مسألة التوكل، فهي مسألة ثانية غير التوكل، وأدلتها غير أدلة التوكل، فلا يصح أن تحشر معه أو تجعل قيداً له. فكما يجب على المسلمين أن يأخذوا بالأسباب والمسببات كما ثبت ذلك بالأدلة الشرعية كذلك يجب عليهم أن يتوكلوا على الله تعالى كما ثبت ذلك بالأدلة الشرعية، وليس أحدهما يقيد الآخر ولا شرطاً من شروطه، والواو التي وردت في الحديث في كلمة «توكل» هي لمطلق الجمع لا تفيد ترتيباً ولا تعقيباً ولا معية كقولك جاء زيد وعمرو، والعطف في «اعقلها وتوكل» عطف مغايرة لا عطف تفسير، كما أن الواو في اللغة لم ترد لتفيد ترتيباً وتعقيباً، إذ أن أحرف الترتيب هي الفاء وثم وحتى؛ فلو أراد الرسول عليه السلام وهو افصح من نطق بالضاد فلو أراد ترتيب التوكل على الأخذ بالأسباب وهو عقل الناقة لاستعمل أي حرف يفيد الترتيب أي لقال مثلاً اعقلها ثم توكل أو اعقلها فتوكل أو ما في معناها. فمعنى الحديث هو توكل ثم اعقلها، أو توكل فاعقلها لأن التوكل يأتي قبل الأخذ بالأسباب لا بعدها فالله تعالى يقول: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإن هذا يدل على أنه يحن نعزم على أمر أو نقوم بعمل يجب أن نتوكل على الله، والشارع رتب التوكل على العزم باستعماله الفاء في «فتوكل» التي تفيد الترتيب والتعقيب كقام زيد فعمروا. ولم يرتب التوكل على العمل أي على الأخذ بالأسباب بل رتب التوكل على الشروع بالعمل أي عند العزم على القيام به.
وكذلك فإن علم الله بأن الأمر الفلاني سيحصل لا يعني عدم الأخذ بالأسباب والمسببات وعدم ربط الأسباب بمسبباتها. لأن علم الله لم ينكشف لأحد حتى يعلم الشيء ولا يأخذ بأسبابه، فالكتابة في اللوح المحفوظ والقدر يستحيل أن تعرف من قبل الخلق حتى يحكموا على وقوع الشيء وعدم وقوعه، فلا يصح أن يتركوا الأخذ بالأسباب والمسببات بحجة القدر والكتابة، لأن ذلك ربط بمجهول وهو التواكل بعينه، بل لا بد من الأخذ بالأسباب والمسببات دون ربطها بالقدر، بل دون التفكير به، ولهذا فإن عمر بن الخطاب استنكر على أبي عبيدة حين ربط القدر بالأخذ بالأسباب والمسببات، ففي عام طاعون عمواس خرج عمر من المدينة يريد الذهاب إلى الشام حتى إذا بلغ على مقربة من تبوك لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنه، فأخبروه أن الأرض سقيمة، وذكروا له طرفاً من أنباء الطاعون وشدة أصابته. وراع عمر ما سمعه منهم فلما أمسى جمع المهاجرين الأولين يستشيرهم أيتابع طريقه إلى الشام مع ما فيها من وباءٍ أم يعود أدراجه إلى المدينة، واختلف رأيهم، فمن قائل: خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده، ولا نرى أن يصدك عنه بلاء عرض لك، ومن قائل إنه لبلاء وفناء ما نرى أن تقدم عليه، واختلف الأنصار كما اختلف المهاجرون، كأنما سمعوا قولهم فأعادوه، هنالك جمع اعمر مهاجرة الفتح من قريش فاستشارهم، فلم يختلف عليه اثنان، بل قالوا جميعاً: ارجع بالناس فإنه بلاء وفناء. وأمر عمر فنادى ابن عباس ليعدوا رواحلهم متى أصبحوا. فلما صلوا الصبح التفت عمر إليهم وقال: «إني راجع فارجعوا» ولم يكن أبو عبيدة حاضراً مشاورات عمر وما انتهى إليه من رأي، فلما عرف ذلك قال له: أفراراً من قدر الله يا عمر؟ فدهش عمر لهذا الاعتراض ونظر ملياً إلى أبي عبيدة ثم قال: «لو غيرك قالها يا أبا عبيدة. نعم فراراً من قدر الله إلى قدر الله» وأطرق هنيهة ثم أردف «أرأيت لو أن رجلاً هبط وادياً له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبةٌ، أليس يرعى من رعى الجدبة بقدر الله، ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله». فهذا الحوار بين عمر وأبي عبيدة، استنكار عمر لاعتراض أبي عبيدة، يدل على أن الاثنين عمر وأبا عبيدة كانا يفهمان أن قدر الله يعني علم الله، غير أن عمر كان يرى أن قدر الله لا دخل له في موضوع ربط الأسباب بمسبباتها، فالذهاب إلى الشام مع وجود الطاعون قد يتسبب عنه الموت، والرجوع أخذ بالأسباب للنجاة من الطاعون، ولهذا أنكر على أبي عبيدة أن يعترض عليه فقال له: «لو غيرك قالها يا أبا عبيدة» ولم يكتف بذلك بل شرح رأيه بأن الذهاب إلى الشام ذهاب بقدر الله، والرجوع إلى المدينة رجوع بقدر الله، أي بعلم الله. مما يرد بأن القدر لا يصح أن يُربط بالأعمال، ولا يصح أن يترك الأخذ بالأسباب والمسببات بحجة القدر. فعمر رضي الله عنه ومعه الصحابة مع إيمانهم المطلق بالقدر إلا أنهم لم يستسلموا للواقع أي للمقدور بل التمسوا أسباب الخلاص منه. ومنه يظهر واضحاً أن الاستسلام للواقع والتسليم المطلق به وهذا ما يسمى بالقدرية الغيبية مخالف للإسلام بل لا بد من أخذ الأسباب لتغيير هذه الواقع أو للخلاص منه.
وهكذا فالمؤن حين يريد تحقيق هدف من الأهداف فإنه يقرر أي يعتزم الأمر ثم يتسلح بالقوى الروحية أي يتوكل على الله حق التوكل أي يعتقد بأن الله سوف يساعده على تحقيق هذا الأمر ثم يلتمس أسباب ويربطها بالمسببات ويمضي قدماً لا يقيده عن تحقيق هذا الهدف أي خطر، ولا يُقعده عنه بلاٌ أو ضرر، ولا تقف في وجهه العقبات، لأنه يؤمن أن ما قدره الله سيقع قطعاً وأن ليس له إلا الأخذ بالأسباب والمسببات، فالقضية عند المؤمن أن يعمل بما أمر الله من الأخذ بالأسباب والمسببات، والنظر في الأمور والتدبر فيها لاحسان التصرف حتى إذا اتضح الرأي وعزم وجب أن يغض النظر عن كل ما سوى هذا الأمر، فإنه لا يقع في الوجود إلا ما قدره الله. وهذا هو ما كان عليه رسول الله في كل أعماله، في بدر، وفي حنين، وفي الهجرة يوم بيتوا قتله، وفي غشيانه أبا جهل يطلب منه أن يدفع المال لصاحبه وأبو جهل كان ينتظر الفرصة لإيذائه، وهذا هو ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم يوم اندفعوا في الفتوحات، ويوم خرجوا إلى العالم يحملون له رسالة الإسلام.